قادمة من روح التاريخ، الذي يومًا ما، لم ينصف أو ينتصف، وقفت هنا على تلّة الحضارات المتعاقبة ولم يأت القمر، انتظرت رائحة الفرج، لم تفحْ، فاحت فقط، أمثال خلّدت شيطانيتي، وحكم كرست خطيئتي، ومأثورات رسخت دناءتي.
بكيت..!!
على حافة الأزمنة الراحلة والقادمة، أسقطت دموع اللوعة والأسى، فسمّوها دموع التماسيح، دافعت عن حقي في أن أعيش أو أكون، فسمّوني: التمرد، قرأت سيرة البشرية الأولى، فوجدت صفتي المنقوشة في كل الكتب: الخطيئة..!!
جلست على سفرة الأحلام، فقالوا: تفاحتك أخرجت آدم من الجنة..!!
ركضت نحو المرآة أنتظر منها أن تنصفني، فقالوا: الفتنة..!!
حاولت أن أستأثر بزوجي الذي اختارني ولم أختره، فقالوا: أنانية..!!
لذت بالأهل خوفًا من قسوة الغريب، فأصبحت: عانسًا..!! ملّ الوالد من طول مكثي، وعيّرتني أمي بابنة الجيران، ثم رحلا، فامتعض الشقيق، وسألتني زوجته الرحيل، عدت للغريب الذي ليس منه بد، فقال: آلآن..!!؟ وقد مضى العمر، وحلّ الخريف..!!
امرأة أنا..!!
بحثت عن نفسي في الكتب، فوجدت الفلاسفة لم يهملوني، والعباقرة لم يتجاهلوني، والأدباء لم ينسوني، فتشت بلهفة عن نفسي، فلم أجد الجديد، فأنا الفاتنة وأنا الفتنة، وأنا الساحرة وأنا السحر، وأنا الناقصة، وأنا النقص، وأنا المتعة حينما يريد الرجل، والجمال حينما تهفو نفسه للجمال.
لكنني فيما بعد استحيل ماردًا في قمقم، وشيطانًا في ثوب إنسان، وتنينًا يحطم كل شيء، في سبيل الحصول على أهدافه..!!
وضربوا لذلك الأمثال، ورصدوا الشواهد ورصفوا الأدلة، وحشدوا الحجج..!!
أقفلت دفتي كتاب ذلك الفيلسوف المسمى: الرجل، وبتُّ أتطلع إلى فجر جديد، قد يأتي بعد حين.
تحررت..!!
ولدت خديجة، حينما دب الإسلام في أوصال الحياة الهامدة فعادت تناغي الألق من جديد.
ولدتُ من جديد..!!
سمعت صوتي، لأول مرة ربما، وعلمت أن فتحًا جديدًا، سوف يأتي، وفتحة وليدة، سوف تثقب في جدار العزل العنصري الأصم.
تهت بزوجي..!! أحببته..!! عززت عليه..!! حاورته..!! احترمته..!! احترمني..!!
نعم، الاحترام بشحمه ولحمه، الاحترام الأثير، الذي طالما شعرت أنه خيالات شاعر، وأحلام مجنون، وتهيؤات ممسوس.
تذوقته، عشته وعايشته، لمسته وتحسسته، كنت خديجة، كنت بعد خديجة عائشة.
عوملت كإنسان، يشعر ويحب ويكره، يفكر ويقرر، ينقد ويحلل، يتأمل يفعل، يصيب ويخطئ.
والرجل الذي طالما قهرني واحتقرني، ها هو يقف بالباب يستفتيني.
ابن عباس وابن الزبير، وعمر..!!
أسماء من الوزن الثقيل، الذهبي، العظيم..!!
كنت عائشة.
كنت فاطمة.
كنت حفصة.
كنت امرأة.
امرأة أنا.
تمر علي الأيام، والأعوام، والأحلام، والآلام، والأزمان.
كما تمر على الرجل.
وتطل الحضارة والتحضر، والمدنية والتمدّن.
وتطل الدعوات الجديدة برأسها من كوّة الأحداث، ويزعم الشريك اللدود أنه قد قرر أن يحررني..!! وحرت في هذا التحرير.
الرجل يريد أن يحررني، وأنا بوصفي مسلمة لم أكن بحاجة إلى هذا التحرير، الذي انتظرته قرونًا، فلم أجد سوى القهر والاضطهاد.
ولكن القوة العظمى قررت، وانتهى الأمر.
أغمضت عيني على مضض.
فتحتهما...
فإذا بي أملأ أغلفة الصحف والمجلات، وأحتل صدر المشاهد وأملأ المنتديات، صخبي يملأ الشاشات، وجسدي وقود الإعلانات، وابتسامتي الباهتة تحكي عن حالي، والقوة العظمى تتاجر بي.
في المسلسلات لا دور لي سوى جذب المشاهد، "الرجل".
وفي الإعلانات جسدي يستخدم لترويج بضاعة التاجر، "الرجل".
وفي الشاشات فتنتي تستخدم لترضي غرور المتابع، "الرجل".
وفي الرياضات: أمارسها لأحقق متعة رياضية مختلفة للمشجع، "الرجل".
وفي الأسواق أستخدم جميع الوسائل لجذب المتسوق، "الرجل".
وفي الحفلات أفعل كل شيء لإرضاء المدعو، "الرجل".
وفي البارات والحانات، والملاهي والمراقص، والمسارح والمنتديات، يموت شرفي، وتمزق كرامتي، وتنتهك إنسانيتي، وتنسلُّ سعادتي، ويذبل شبابي، وتتلاشى أنواري، وتنضب أنهاري، وتغرب أقماري..!! من بعيد، تلوح جنازتي وقد تقطعت أوصالها، وفاحت رائحتها، ولم يشيعها أحد، والقوة العظمى تضحك ساخرة من منظر غروبي، وتنفض يدها من غبار وجودي..!!
وأنا هنا، أو هناك، أنزوي متكورة على أحلامي النازفة، أبحث عن الأمان في الزوايا والدروب، فألفى كل العشب وقد نسي لونه الأخضر، وتأوهت الأرض، ثم فتحت فاها الضخم لتلتهمني، وتدفق عاري للأبد، دون أن يحررني محرري من لسعة الغياب الأبدي، وحرقة الموت الصامت.
امرأة أنا..
في بلاد الحرمين، أعلاني الدين وأغلاني، ولم أكن من هذا الهراء والبلاء ـ بفضل الله ـ أعاني، وعرفت الحجاب منذ صغري، أحببته، كفارس يهوى حصانه النجيب، فلا يبتغي له بدلاً، كان السلاح والفلاح، كان الهدف والقضية، عنوان راسخ شامخ، واضح صالح، للقراءة والتهجي، خريطة واضحة المقاسم والمعالم، في عالم أصم..!!
ولقد سمعتهم..!!
كانوا يتحدثون سرًا، خفت منهم، لذت به، صمت، والخوف يطل ويغيب، كانوا يفتشون في الكتب والمجلدات بحثًا عن دليل يرفعونه شعارًا، ليحرروني من الحجاب..!!
آه.. صوتهم يعلو، وأصبح السر جهرًا، والهمس صدعًا والفكرة أمرًا.
بغداد مرة أخرى..!!
الرجل يريد أن يحررني، هو مشتاق لرؤية وجهي الذي أخفيته عنه دهرًا، فأشرقت فيه ابتسامة الحياة، ونبتت على وجنتيه أزهار الحياء، ونامت فيه أسرار العظمة، وبذور النخل والزيتون.
لا بد من تمزيق ثوب بغداد، لتقتنع القوة العظمى، فلا تعربد في البحث والتخريب، لتمزق أثوابها مختارة، لئلا تخسر بتمزيقها مجبرة المزيد..!! فلتتوقف دجلة والفرات عن البوح بحكايات الأصمعي، وفلسفات المعري، وتخضع للتفتيش... يريدون ـ وهم أهلي ـ تمزيق حجابي، ويحررون ـ وهم أبناء جلدتي ـ شهادة موتي، حتى إذا تم الأمر، وضاقت الأرض بما رحبت عليّ، وفقدت جوادي، وعدتي وعتادي، وقلمي ومدادي، ويئست روحي، وذبل فؤادي، أعلنوا أنهم لم يجدوا أسلحة الدمار الشامل..!! ولكن لا تجزعوا، فهذا هو الإجراء العادل، لكي تتحرر المرأة من هذا السواد، الذي عطل مصالح البلاد والعباد، وقضى على ما بناه الأجداد، فليس إلا بكشف وجه المرأة، تعود الأمة لواجهة التاريخ منادية الدنيا: أمجاد أمجاد..!!
بقلم / همسة عتاب